Tafsir Isyari (b.arab)

التفسير الإشاري (دراسة تأصيلية)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد :

فتدُّبر القرآن والحديث أصل لاستنباط العلوم منهما ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )

( رُبّ مبلغ أوعي من سامع ) والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا كبيرا , ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها )

قال ابن عباس رضي الله عنه : ( أنزل من السماء ماء ) قال : قرآنا ( فسالت أودية بقدرها ) قال : الأودية : قلوب العباد ) اهـ تفسير القرطبي 9/259

وقال ابن كثير 2/668 في تفسير ( فسالت أودية بقدرها ) : ( هو إشارة إلى القلوب وتفاوتها فمنها ما يسع علما كثيرا ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها ) اهـ

وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 13/245 : ( لا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين وعباده الصالحين - بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه , واتّباعهم ما يحبه - ما لا يفتح به على غيرهم وهذا كما قال عليٌّ : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه , وفى الأثر : من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم , وقد دل القرآن على ذلك في غير موضع ) اهـ

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين 1/354 : ( والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين , ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك , ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره ) اهـ

وهذا مقال موجز عن التفسير الإشاري , وقد جعلته في مباحث :

المبحث الأول : معنى التفسير الإشاري وأمثلته

المبحث الثاني : حكم التفسير الإشاري وأقوال أهل العلم فيه

المبحث الثالث : الفرق بين التفسير الإشاري والتفسير الباطني

المبحث الرابع : شروط قبول التفسير الإشاري

المبحث الخامس : أنواع تلك الإشارات

المبحث السادس : أهل الإشارة

المبحث السابع : ذكر بعض التفاسير التي تهتم بالتفسير الإشاري

المبحث الأول

معنى التفسير الإشاري وأمثلته

التفسير الإشاري :

هو تفسير القرآن بغير ظاهره لإشارة تظهر لأرباب الصفاء , مع عدم إبطال الظاهر , قال الزرقاني :

( التفسير الإشاري : هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا ) اهـ / مناهل العرفان للزرقاني 2/56

وقال الصابوني : ( التفسير الإشاري : هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره، لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نوَّر الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم ، أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة ، بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني ، مع إمكان الجمع بينهما وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة ) اهـ

وانظر التبيان في علوم القرآن للصابوني ص191

ومثل ذلك يجري على الحديث النبوي الشريف أيضا كما سيأتي عن الأئمة , وبالمثال يتضح المقال

أمثله للتفسير الإشاري :

- قوله تعالى ( لينفق ذو سعة من سعته ... ) فالآية في نفقة الزوجة , لكن أرباب السلوك يرون فيها إشارة إلى أن الواصل يرشد إلى الله على قدر ما وهبه الله من المعرفة , والسالك يرشد أيضا لكن على قدره , قال ابن عطاء الله في الحكم : (لينفق ذو سعة من سعته) .. الواصلون إليه

( ومن قدر عليه رزقه ) .. السائرون إليه ) اهـ ص 47 مع شرح ابن عجيبة

- قوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) فالآية في مصارف الزكاة , لكن أرباب السلوك يرون فيها إشارة إلى أن مواهب الله على القلوب لا تكون إلا بتحقيق الفقر والمسكنة لله تعالى قال ابن عجيبة في شرح الحكم ص 48 :

( إقطع عنك المادة وافتقر إلى الله تفيض عليك المواهب من الله ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) إن أردت بسط المواهب عليك صحح الفقر والفاقة لديك ) اهـ وأصل الكلام في الحكم

- قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تدخل الملائكة بيتا في كلب أو صورة ) فالحديث في منع الكلب والصورة الملائكةَ من دخول البيت , لكن أرباب السلوك يرون فيه إشارة إلى أن معرفة الله لا تدخل قلبا امتلأ بكلاب الشهوة وانطبع بصور الأكوان ,

قال ابن القيم في المدارج 2/406 : ( وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ) إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت , فكيف تلج معرفة الله عز وجل ، ومحبته وحلاوة ذكره ، والأنس بقربه في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها ؟ ) اهـ

- وقبله قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين 1/49 :

( ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ) , والقلب بيتٌ هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم , والصفات الرديئة مثل والغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة , فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة ) اهـ

- قوله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة بغير طهور ) فالحديث في عدم صحة الصلاة بغير طهارة الظاهر لكن أهل السلوك يرون فيه إشارة إلى أن عدم طهارة الباطن مانعة من قبول الصلاة من باب أولى

قال ابن القيم في المدارج 2/406 : ( طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها , فإذا أخل بها كانت فاسدة , فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه ؟ فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء ؟ وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ) اهـ

- والأمثلة على ذلك كثيرة جدا تراجع في مظانها من كتب التفسير الإشاري وكتب السلوك ,

وستأتي أمثلة أخرى على ذلك إن شاء الله ضمن أقوال العلماء الآتية

المبحث الثاني

حكم التفسير الإشاري وأقوال أهل العلم فيه

التفسير الإشاري مقبول في الجملة بشروط وستأتي شروط قبوله في مبحث خاص إن شاء الله ولكن نبدأ بذكر بعض أقوال أهل العلم في حكم التفسير الإشاري :

- الإمام الغزالي :

قال في إحياء علوم الدين 1/293 : ( ما من كلمة من القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه

فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلاما فأسرار كلمات الله لا نهاية لها فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل

فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير , وظاهر التفسير لا يغنى عنه ...

فهذه خواطر تفتح لأرباب القلوب ثم لها أغوار وراء هذا ... وأسرار ذلك كثيرة ولا يدل تفسير ظاهر عليه وليس اللفظ هو مناقضا لظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن ظاهره فهذا ما نورده لفهم المعاني الباطنة لا ما يناقض الظاهر والله أعلم ) اهـ

وقال في الإحياء أيضا 1/49 :

( ولست أقول المراد بلفظ البيت هو القلب وبالكلب هو الغضب والصفات المذمومة ولكني أقول هو تنبيه عليه وفرق بين تعبير الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر

ففارق الباطنية بهذه الدقيقة فإن هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والأبرار إذ معنى الاعتبار أن يعبر ما ذكر إلى غيره فلا يقتصر عليه كما يرى العاقل مصيبة لغيره فيكون فيها له عبرة بأن يعبر منها إلى التنبه لكونه أيضا عرضة للمصائب ) اهـ

- الإمام ابن الصلاح :

في فتاوى ابن الصلاح 1/196 : ( مسألة : سأل سائل في كلام الصوفية في القرآن كالجنيد وغيره وكان السائل عن هذا ينكر ما سمع من ذلك وكان يجالس شيخا من المفتين فجرى ذلك في مجلسه فابتدأ الشيخ وقال كالمستحسن لكلام الصوفية : هم لا يريدون به تفسير القرآن وإنما هي معاني يجدونها عند التلاوة

وقال أيضا يقولون :

( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) قالوا : هي النفس وكان الشيخ المفتي يشرح ذلك ويقول : أمرنا بقتال من يلينا لأنهم أقرب شرا إلينا وأقرب شرا إلى الإنسان نفسه

وقال الشيخ أيضا :

يقولون ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) يقول نوح العقل والغرض أنهم يلقي الله عندهم في كلامه ما ينتفعون به وهذا قد صدر عن أكابرهم والجم الغفير وأنتم بذلك أعلم والسائل لهذا ليس بجاهل وليس غرضه إلا الاعتضاد بما يسمع من الشيخ تقي الدين رضي الله عنه واحد لا يجهل أن قوله تعالى ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) ليس المراد به النفس وإن المراد ظاهر ومن قال غير ذاك فهو مخطئ

فأجاب رضي الله عنه :

وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر رحمه الله أنه قال : صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر

وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكر تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسالك الباطنية

وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فان النظير يذكر بالنظير فمن ذكر قتال النفس في الآية المذكورة فكأنه قال أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار , ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإيهام والالتباس والله أعلم ) اهـ

- الإمام ابن عطاء الله السكندري :

في الإتقان للسيوطي 2/488 : ( قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في كتابه لطائف المنن :

اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني العربية ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان وثَمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه وقد جاء في الحديث ( لكل آية ظهر وبطن )

فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك بل يقرؤون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم ) اهـ

- الإمام ابن تيمية :

قال ابن تيمية كما مجموع الفتاوى 10/560: ( ومتى كان المعنى صحيحا والدلالة ليست مرادة فقد يسمى ذلك إشارة وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير من هذا قطعة ) اهـ

وقال أيضا كما في مجموع الفتاوي 6/376 :

( فإن إشارات المشايخ الصوفية التي يشيرون بها تنقسم إلى :

- إشارة حالية : وهى إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به وليس هذا موضعه

- وتنقسم إلى الإشارات المتعقلة بالأقوال :

مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك

فان كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح كانت حسنة مقبولة وان كانت كالقياس الضعيف كان لها حكمه وان كان تحريفا للكلام عن مواضعه وتأويلا للكلام على غير تأويله كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية فتدبّر هذا فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات ) اهـ

وقال أيضا كما في مجموع الفتاوي 2/28 :

( وأما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دل اللفظ عليه ويجعلون المعنى المشار إليه مفهوما من جهة القياس والاعتبار فحالهم كحال الفقهاء العالمين بالقياس والاعتبار وهذا حق إذا كان قياساً صحيحاً لا فاسدا واعتباراً مستقيماً لا منحرفا ) اهـ

وقال أيضا 13/240 :

( والثاني ما كان في نفسه حقاً لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يُرَد بها ذلك فهذا الذي يسمونه إشارات و حقائق التفسير لأبى عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير ...

وهو الذي يشتبه كثيرا على بعض الناس فان المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسنة عليه ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه , وهذان قسمان :

- أحدهما : أن يقال إن ذلك المعنى مراد باللفظ فهذا افتراء على الله ...

- القسم الثاني : أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ فهذا من نوع القياس فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك

فمن سمع قول الله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) وقال : إنه اللوح المحفوظ أو المصحف , فقال : كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهى قلوب المتقين كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا ...

وكذلك من قال : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد فقد أصاب ) اهـ

- الإمام ابن القيم :

قال ابن القيم في المدارج 2/406 :

( الإشارات : هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بعد ، ومن وراء حجاب , وهي تارة تكون من مسموع , وتارة تكون من مرئي , وتارة تكون من معقول , وقد تكون من الحواس كلها .

فالإشارات : من جنس الأدلة والأعلام , وسببها : صفاء يحصل بالجمعية فيلطف به الحس والذهن فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : الصحيح منها : ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى .

قلت : مثاله قوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) , قال [ ابن تيمية ] :

والصحيح في الآية أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة ... لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر . لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر ...

ومن هذا : أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب , فتوجه المصلى إليها ببدنه وقالبه شرط , فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن ؟ بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت .

وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل .

والله أعلم .) اهـ

وقال في المدارج أيضا 2/431 :

( قال صاحب المنازل : ( قال الله تعالى : ( واذكر ربك إذا نسيت ) يعني : إذا نسيت غيره ونسيت نفسك في ذكرك ثم نسيت ذكرك في ذكره ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر ) ... كلام صاحب المنازل يحمل على الإشارة لا على التفسير ... ) اهـ

- الإمام الشاطبي :

قال في الموافقات وقد ذكر نماذج من التفسير الإشاري عن سهل التستري 3/398 :

( ولكن له وجه جار على الصحة وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ولكن أتى بما هو ند في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين :

إحداهما : أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه ... ) اهـ

ثم قال 3/403 : ( ... وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك [ أي التفسير الإشاري ] من الفضلاء وربما ألم ّ الغزالي بشيء منه في الإحياء وغيره وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائِلَينِ :

- منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافة فربما كذب به أو أشكل عليه

- ومنهم من يكذب به على الإطلاق ويرى أنه تقوّل وبهتان مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف ) اهـ

ثم قال 3/404 – 406 : ( فنقول : إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة [ شروط قبول التفسير ] فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني وهو الوجودي ويصح تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي أيضا فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه المربي وهو أمر خاص وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع فلذلك يوقف على محله , فكون القلب جارا ذا قربى والجار الجنب هو النفس الطبيعي , إلى سائر ما ذكر [ التستري ] يصح تنزيله اعتباريا مطلقا فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدا عند أربابه غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ

وأيضا فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد

وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآني والوجودي وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه , ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم

وللغزالي في مشكاة الأنوار وفي كتاب الشكر من الإحياء وفي كتاب جواهر القرآن في الاعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة فتأملها هناك والله الموفق

وللسنة في هذا النمط مدخل فإن كل واحد منهما قابل لذلك الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد وقابل أيضا للاعتبار الوجودي فقد فرضوا نحوه في قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ) , إلى غير ذلك من الأحاديث ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب ) اهـ

- الحافظ ابن حجر :

في فتح الباري 8/736 في شرحه لحديث ابن عباس المشهور في تفسير :

إذا جاء نصر الله وأن فيها إشارة لأجَل النبي صلى الله عليه وسلم وقصة ابن عباس مع عمر وأهل الشورى قال الحافظ : ( وفيه جواز تأويل القرآن بما يفهم من الإشارات , وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمه في العلم ولهذا قال علي رضي الله تعالى عنه : أو فهما يؤتيه الله رجلاً في القرآن ) اهـ

- الإمام الزركشي :

قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن 2/170 :

( تنبيه : في كلام الصوفية في تفسير القرآن : فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن فقيل ليس تفسيرا وإنما هي معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) : إن المراد النفس فأمرنا بقتال من يلينا لأنها أقرب شيء إلينا وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه قال ابن الصلاح في فتاويه : ... ) اهـ ثم ذكر كلام ابن الصلاح السابق مقراً مستدلاً به

- الإمام التفتازاني والإمام السيوطي :

قال السيوطي في الإتقان 2/485 : ( وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير قال ابن الصلاح ... قال التفتازاني في شرحه [ على النسفي ] : سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان باطنية لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية

قال : وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان ) اهـ وكلام السعد في شرح النسفية ص 142

- الإمام ابن عجيبة شارح الحكم :

قال في شرح الحكم ص 366 :

( كثيرا ما يستدل الصوفية بهذه الآية [ قل الله ثم ذرهم ] على الانقطاع إلى الله والغيبة عما سواه وهو تفسير إشاري لا تفسير معنى اللفظ لأنها نزلت في الرد على اليهود ...

والصوفية - رضي الله عنهم - يقرون الظاهر ويقتبسون إشارات خفية لا يعرف مقصودهم غيرهم ولذلك رد عليهم بعض المفسرين حيث لم يعرف قصدهم ( قد علم كل أناس مشربهم ) اهـ

وقال ابن عجيبة أيضا في شرح الحكم ص 80 : ( ثم تلى الشيخ هذه الآية ( قل الله ثم ذرهم ... ) على طريق أهل الإشارة , قل : الله بقلبك وروحك وغب عما سواه ثم ذر الناس أي اتركهم في خوضهم يلعبون أي يخوضون في السوى لاعبين في الهوى , وقد اعترض بعض المفسرين على الصوفية استشهادهم بهذه الآية ولم يفهم مرادهم ( قد علم كل أناس مشربهم ! ) اهـ

وقال أيضا ص 212 : ( وأما تفسير أهل الباطن فهو إشارة لا تفسير معنى ) اهـ

- الشيخ بن عاشور :

قال ابن عاشور في تفسيره 1/16 :

( أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني ... ) اهـ

وقال أيضا في تفسيره 1/17 :

( فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية . فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين . ) اهـ

- الشيخ الزرقاني :

قال الزرقاني في مناهل العرفان 2/56 :

( وقد اختلف العلماء في التفسير المذكور [ الإشاري ] فمنهم من أجازه ومنهم من منعه ...

ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشاري وبين تفسير الباطنية الملاحدة فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر بل يحضون عليه ويقولون لا بد منه أولا إذ من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم الظاهر كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب , وأما الباطنية فإنهم يقولون إن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن وقصدهم نفي الشريعة ) اهـ

المبحث الثالث

الفرق بين التفسير الإشاري والتفسير الباطني

مما سبق يتبين لنا الفرق بين التفسير الإشاري والتفسير الباطني وخلاصته :

أن صاحب التفسير الباطني يبطل الظاهر أو يجعل الظاهر للعامة دون الخاصة , أما صاحب التفسير الإشاري فإنه يقر بالظاهر ويعترف بأنه هو المراد من الآية لكنه يقول : إن في الآية إشارة لمعنى آخر يخطر بباله عند قراءتها

وعلى العموم فإن التفسير على ثلاثة أنواع :

النوع الأول : التفسير الظاهري وهو الأصل ,

والنوع الثاني : التفسير الإشاري وهو تفسير بغير الظاهر مع عدم إبطال الظاهر ,

والنوع الثالث : التفسير الباطني وهو التفسير بغير الظاهر مع إبطال الظاهر أو جعله للعامة دون الخاصة

ولا بأس أن نورد هنا مقتطفات من أقوال أهل العلم التي تشير إلى الفرق بين التفسير الإشاري والتفسير الباطني - وإن كانت قد ذكرت ضمنا من قبل - وذلك للأهمية :

قال الغزالي في الإحياء 1/49 :

( ولست أقول المراد بلفظ البيت هو القلب وبالكلب هو الغضب والصفات المذمومة ولكني أقول هو تنبيه عليه وفرق بين تعبير الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر

ففارق الباطنية بهذه الدقيقة فإن هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والأبرار إذ معنى الاعتبار أن يعبر ما ذكر إلى غيره فلا يقتصر عليه كما يرى العاقل مصيبة لغيره فيكون فيها له عبرة بأن يعبر منها إلى التنبه لكونه أيضا عرضة للمصائب ) اهـ

وقال ابن الصلاح في فتاويه 1/196 :

( وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكر تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسالك الباطنية , وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فان النظير يذكر بالنظير ) اهـ

وقال ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن :

( فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك بل يقرؤون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم ) اهـ

الإتقان للسيوطي 2/488

وقال التفتازاني في شرحه على النسفية :

( سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان باطنية لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية

قال : وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان ) اهـ الإتقان للسيوطي 2/485

وقال الزرقاني في مناهل العرفان 2 /56 :

( ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشاري وبين تفسير الباطنية الملاحدة فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر بل يحضون عليه ويقولون لا بد منه أولا إذ من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم الظاهر كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب , وأما الباطنية فإنهم يقولون إن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن وقصدهم نفي الشريعة ) اهـ

المبحث الرابع

شروط قبول التفسير الإشاري :

قال ابن القيم في كتابه التبيان في أقسام القرآن ص 49 :

( وهذه الأقوال إن أريد أن اللفظ دل عليها وأنها هي المراد فغلط وإن أريد أنها أخذت من طريق الإشارة والقياس فأمرها قريب وتفسير الناس يحاور على ثلاثة أصول :

تفسير على اللفظ وهو الذي ينحو إليه المتأخرون ,

وتفسير على المعنى وهو الذي يذكره السلف ,

وتفسير على الإشارة والقياس وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم وهذا لا بأس به بأربعة شرائط :

1- أن لا يناقض معنى الآية

2- وأن يكون معنى صحيحا في نفسه

3- وأن يكون في اللفظ إشعار به

4- وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم

- فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطا حسنا ) اهـ

وقال الزرقاني في مناهل العرفان 2/58 :

( مما تقدم يعلم أن التفسير الإشاري لا يكون مقبولا إلا بشروط خمسة وهي :

1- ألا يتنافى وما يظهر من معنى النظم الكريم

2- ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر

3- ألا يكون تأويلا بعيدا سخيفا كتفسير بعضهم قوله تعالى : ( وإن الله لمع المحسنين ) بجعل كلمة لمع فعلا ماضيا وكلمة المحسنين مفعوله

4- ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي

5- أن يكون له شاهد شرعي يؤيده ,كذلك اشترطوا

بيد أن هذه الشروط متداخلة فيمكن الاستغناء بالأول عن الثالث وبالخامس عن الرابع ويحسن ملاحظة شرطين بدلهما :

- أحدهما : بيان المعنى الموضوع له اللفظ الكريم أولا

- ثانيهما : ألا يكون من وراء هذا التفسير الإشاري تشويش على المفسَّر له

ثم إن هذه شروط لقبوله بمعنى عدم رفضه فحسب وليست شروطا لوجوب اتباعه والأخذ به , ذلك لأنه لا يتنافى وظاهر القرآن ثم إن له شاهدا يعضده من الشرع وكل ما كان كذلك لا يرفض , وإنما لم يجب الأخذ به لأن النظم الكريم لم يوضع للدلالة عليه بل هو من قبيل الإلهامات التي تلوح لأصحابها غير منضبطة بلغة ولا مقيدة بقوانين ) اهـ

المبحث الخامس

أنواع تلك الإشارات

قال ابن عاشور في تفسيره 1/16 :

( وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحداً من ثلاثة أنحاء :

الأول :

ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه " أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس . ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية وسعى في خرابها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى ...

الثاني :

ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال في قوله تعالى ( من ذا الذي يشفع ) من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه .

ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع .

الثالث :

عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى ( فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا ...

وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم ) اهـ

المبحث السادس

أهل الإشارات

من المعلوم أن من الناس من هم من أهل الإشارة , سواء فيما يقولون أو فيما يسمعون أو يقرؤون أو يرون أو حتى فيما يفكرون ,

وقد تقدم معنى قول ابن القيم في مدارج السالكين 2/406 :

( الإشارات : هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بُعد ومن وراء حجاب , وهي تارة تكون من مسموع , وتارة تكون من مرئي , وتارة تكون من معقول , وقد تكون من الحواس كلها .

فالإشارات : من جنس الأدلة والأعلام , وسببها : صفاء يحصل بالجمعية فيلطف به الحس والذهن فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها .) اهـ

وقال في المدارج أيضا 1/129 :

( يريد بالإشارة : ما يشير إليه القوم من الأحوال والمنازلات والأذواق التي ينكرها الأجنبي من السلوك ويثبتها أهل البصائر وكثير من هذه الأمور ترد على السالك , فإن كان له بصيرة ثبّتت بصيرته ذلك له وحقّقته عنده وعرّفته تفاصيله , وإن لم يكن له بصيرة بل كان جاهلا لم يعرف تفصيل ما يرد عليه ولم يهتد لتثبيته ) اهـ

وقال في المدارج أيضا 3/63 : ( قوله : أو إشارة تشفيه , أي تشفي قلبه من علة عارضة فإذا وردت عليه الإشارة إما من صادق مثله أو من عالم أو من شيخ مسلِّك أو من آية فهمها أو عبرة ظفر بها اشتفى بها قلبه وهذا معلوم عند من له ذوق ) اهـ

وقال ابن القيم في مدارج السالكين أيضا 3/330 :

( اعلم أن في لسان القوم من الاستعارات ، وإطلاق العام وإرادة الخاص ، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم ولهذا يقولون : نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة , والإشارة لنا والعبارة لغيرنا ) اهـ

وقال ابن القيم في مدارج السالكين أيضا 2/406 :

( وإذا امتلأ القلب بشيء ، وارتفعت المباينة الشديدة بين الظاهر والباطن أدت الأذن إلى القلب من المسموع ما يناسبه ، وإن لم يدل عليه ذلك المسموع ولا قصده المتكلم , ولا يختص ذلك بالكلام الدال على معنى بل قد يقع في الأصوات المجردة

قال القشيري : سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة . فقال : يا أبا عبد الرحمن ، أتدري إيش تقول هذه البكرة ؟

فقلت : لا ، فقال تقول : ( الله الله )

ومثل ذلك كثير كما سمع أبو سليمان الدمشقي من المنادي : يا سعتر بري : إسعَ ترَ بِرِّي ) اهـ

وقصة يا سعتر برّي التي أشار إليها ابن القيم هي بتمامها في شرح الحكم لابن عجيبة ص 262 حيث قال : ( وقد يختلف الشرب لجماعة من آنية واحدة لاختلاف مقامهم كقضية الرجال الذين سمعوا قائلاً يقول : يا سعتر بري , وذلك أن رجلا في الصفا بمكة صاح يا سعتر بري لرجل آخر كان اسمه ذلك فسمعه الثلاثة ، فكل واحد تعلق بذهنه ما يليق بحاله

فسمع أحدهم : الساعة ترى بِرّي

وسمع آخر : إسعَ ترَ برّي

وسمع الثالث : ما أوسعَ برّي ...) اهـ

وقال ابن عاشور في تفسيره 1/16 : ( ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر : هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحاً إلا للنار فجعل يبكي ويقول : إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار ) اهـ

ومما يحكى في هذا الباب :

- أن أحد العارفين سمع بائعا في السوق يقول : الخيار بعشرة الخيار بعشرة , فتواجد وقال : إذا كان الخيار بعشرة فكيف الأشرار

- وسمع عارفٌ آخر امرأةً تنادي الناس ليمسكوا لها ابنها الهارب وتقول : خذوه , خذوه , فتواجد وأخذه الحال وصاح , تذكر بذلك قول الله تعالى ( خذوه فغلوه ... )

- وعندما سُئل الجنيد رحمه الله عن سكونه عند الإنشاد مع تواجد غيره قال : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب )

- وآخر حضر عقد زواج فجعل بعضهم ينادي : هاتوا النار [ أي نار البخور ] هاتوا الشهود [ أي شهود النكاح ], فخرج من المجلس وهامَ على وجهه تذكّر بذلك نار الآخرة وشهود يوم القيامة

- وآخر سمع امرأة تعنف ابنتها , فتقول البنت لأمها : سأقول لأبي , فقالت الأم : ما يفعل لك أبوك ؟

فقالت البنت : وهل معي غيره , فغشي على الرجل , فلما أفاق قالوا له مالك ؟

فقال : وهل معي غيره ؟ !

المبحث السابع

ذكر بعض التفاسير التي تهتم بالتفسير الإشاري :

قال الزرقاني في مناهل العرفان 2/59 وما بعدها :

( وأهم كتب التفسير الإشاري أربعة :

تفسير النيسابوري

وتفسير الألوسي

وتفسير التستري

وتفسير محيي الدين بن عربي ) اهـ

ثم ذكر تعريف موجز بكل تفسير وأمثلة على التفسير الإشاري من تلك التفاسير , ثم قال عن تفسير ابن عربي : ( بيد أن هذا التفسير كما ترى جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان المعاني الوضعية للنصوص القرآنية وهنا الخطر كل الخطر فإنه يخاف على مطالعه أن يفهم أن هذه المعاني الإشارية هي مراد الخالق إلى خلقه في الهداية إلى تعاليم الإسلام والإرشاد إلى حقائق هذا الدين الذي ارتضاه لهم

ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات

وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله

والأدهى من ذاك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب

وهذا لعمر الله هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام كيما يهدموا التشريع من أصوله ويأتوا بنيانه من قواعده ) اهـ

وقد شكك بعضهم في صحة نسبة تفسير ابن عربي إليه ففي تفسير المنار 1 / 18 :

( وقد اشتبه على الناس فيه [ يعني التفسير الإشاري ]كلامُ الباطنية بكلام الصوفية ، ومن ذلك التفسير الذي ينسبونه للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وإنما هو للقاشاني الباطني الشهير ، وفيه من النـزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز ) اهـ

وهناك تفاسير أخرى تهتم بالتفسير الإشاري لم يذكرها الزرقاني ومنها :

- تفسير أبي عبد الرحمن السلمي ( حقائق التفسير )

- تفسير أبي القاسم القشيري

- تفسير أبي محمد الشيرازي ( عرائس البيان في حقائق القرآن )

- تفسير ابن عجيبة ( البحر المديد )

- تفسير إسماعيل حقي ( روح البيان )

وبعض التفاسير تشير أحيانا للإشارات في الآيات ومنها :

تفسير ابن كثير ففي تفسيره 3/744 :

( قال عز وجل : ( إنا نحن نحيي الموتى ) أي يوم القيامة وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق ) اهـ

وقال في تفسيره 4/397 :

( وقوله تعالى : ( اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ويهدي الحيارى بعد ضلتها ويفرج الكروب بعد شدتها فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل ) اهـ

وكذلك الرازي يتكلم أحيانا على الإشارات في الآيات , قال في تفسيره لقوله تعالى ( فخذ أربعة من الطير ) :

(الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تركيب أبدان الحيوانات والنباتات والإشارة فيه أنك ما لم تفرق بين هذه الطيور الأربعة لا يقدر طير الروح على الارتفاع إلى هواء الربوبية وصفاء عالم القدس ...

وإنما خص هذه الحيوانات لأن الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع ، قال تعالى : { زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات }

والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل

والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء الشهوة من الفرج

والغراب إشارة إلى شدة الحرص على الجمع والطلب ، فإن من حرص الغراب أنه يطير بالليل ويخرج بالنهار في غاية البرد للطلب

والإشارة فيه إلى أن الإنسان ما لم يسع في قتل شهوة النفس والفرج وفي إبطال الحرص وإبطال التزين للخلق لم يجد في قلبه روحاً وراحة من نور جلال الله) اهـ

هذا آخر المقال والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه

(كتبه: عضو المجلس العلمي بالمنارة)

الشيخ عبد الفتاح بن صالح قُدَيش اليافعي

اليمن – صنعاء

ذو الحجة / 1426هـ

بريد إلكتروني : afattah31@hotmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الإشاري الصوفي للنصوص

تأليف

الفقير الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الأمين الذي أوتي جوامع الكلم والقرآن العظيم، ففتّق بدلالاتها أذهان الفقهاء والمتكلمين والمحدثين وفتح بإشاراتها قلوب السالكين والعارفين. فاستخرج هؤلاء وهؤلاء من هاتيك البحور - ما ينفعهم في علمهم ونسكهم وسلوكهم إلى حضرة الفتاح العليم - الجواهر والدُرّ الثمين... وعلى آله وأصحابه أرباب الحجا والرأي الحكيم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد،

فإن موضوع التفسير الإشاري - أو استخراج المثل والإشارة من القرآن ونصوص السنة - لمن المواضيع المهمة. من حيث أنه قد باتت فئة من الناس تتخذ من ذلك مطية للإنكار على أهل الله والتوسع والتفنن في ذلك بلا تدبر أو اعتبار، أو اتهامهم بالبدعة أو العبث، حاشاهم رضي الله عنهم من ذلك وإن متهمهم لهو الأولى بهذه الأوصاف المستشنعة. فهو الخائض فيهم بغير علم باللغة والمعاني، وهو المجهد نفسه في تسجيل إشاراتهم عنده ليضعها في لائحة اتهاماته العمياء.

فوجب أن يقال لمثله: عليك بقراءة ما قاله أهل العلم وأساطين التفسير في مثل هذا النوع من الفهم القرآني.

فهو ليس "تفسيرا" بغير علم أو تلاعبا بكلام الله عز وجل كما تظن، كما أنه يختلف عما يسمى بتأويل الباطنية اختلافا جذريا. وهذا ما سيتبين لك في ما سيأتي بإذن الله تعالى.

أورد السيوطي رحمه الله في "الإتقان":

قال التفتازاني في شرحه‏:‏ سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان باطنية لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية‏.‏

قال‏:‏ وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان‏.‏

وقال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله في "لطائف المنن"‏:

اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان وثم أفهامٌ باطنةٌ تُفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه. وقد جاء في الحديث لكل آية ظهر وبطن فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم وأن يقول لك ذو جدل معارضةً: هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله. فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك بل يقرءون الظواهر على ظواهرها مرادًا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم‏.‏

وقال الغزالي رحمه الله في "الإحياء":


وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب. ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه. فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً. فأسرار كلمات الله لا نهاية لها فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل. فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير وظاهر التفسير لا يغني عنه.


ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وسلم في سجوده "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "أنه قيل له اسجد واقترب، فوجد القرب في السجود، فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان. ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه، فرقي إلى الذات فقال "أعوذ بك منك". ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله "لا أحصي ثناء عليك". ثم علم أن ذلك قصور فقال " أنت كما أثنيت على نفسك.

فهذه خواطر تفتح لأرباب القلوب. ثم لها أغوار وراء هذا وهو فهم معنى القرب واختصاصه بالسجود ومعنى الاستعاذة من صفة بصفة، ومنه به. وأسرار ذلك كثيرة.

ولا يدل تفسيرٌ ظاهرٌ عليه وليس اللفظ هو مناقضاً لظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن ظاهره فهذا ما نورده لفهم المعاني الباطنة لا ما يناقض الظاهر والله أعلم."


ويقول الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه "أصول التفسير وقواعده":
"
والإمام الغزالي -الذي لا يمنع تفسير القرآن تفسيرا صوفيا، وإن كان يعارض التوسع فيه إلى حد الاعتماد على الرموز والإشارة- يفسر: {فاخلع نعليك} بقوله: "من يريد إدراك الوحدانية الحقيقية يجب عليه أن يطرح عن نفسه التفكير في الحياتين الدنيا والأخرى": أي أن يُقبل على الله دون غرض وكل ما يفكر فيه هو رضا الله ومحبته".
ويعقب الغزالي على هذا التفسير بقوله: "لا تظن من هذا الأنموذج وطريق ضرب الأمثال رخصة مني في رفع الظواهر، واعتقادا في إبطالها، حتى أقول مثلا: لم يكن مع موسى نعلان، ولم يسمع الخطاب بقوله: {فاخلع نعليك}، حاشا لله، فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالَمَين، وجهلوا جهلا بالموازنة بينهما، فلم يفهموا وجهه، كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية، فالذي يجرد الظاهر حشوي، والذي يحرر الباطن باطني، والذي يجمع بينهما كامل ... بل أقول: موسى فهم من الأمر بخلع النعلين، إطراح الكونين، فامتثل الأمر ظاهرا بخلع النعلين، وباطنا بخلع العالمين."

قلت:

وأشدد على ما نُقل عن الغزالي أعلاه، وعلى قوله "وطريق ضرب الأمثال"، إذ الكثير من هذه الإشارات لا يقصد بها الجزم بأن الله تعالى قد أراد هذا المعنى دون ظاهره وإنما القصد منها الاستئناس بكلام الله وضرب المثل بمعاني كتابه. كمن يتحدث عن النحل في قوله تعالى: {68 وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ 69 ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} بأن ما وصفها الله به يشبه ما يمكن أن يقال عن الأولياء الذين (يسكنون الجبال)؛ أي: يترفعون عن سفاسف الأمور ويطلبون معاليها، ويسلكون (سبل ربهم) أي: سبل الهداية والمعرفة. ثم بعد سلوكهم يخرج الله من قلوبهم (شراب) الحكمة والمعرفة مختلف ألوانه على اختلاف أفهام سامعيهم، وفيه شفاء لقلوب الناس (من الشك والكفر والآفات النفسية والقلبية التي تعترض سلوكهم إلى ربهم).


أو كما أشار البسطامي رحمه الله، حين سئل عن المعرفة فتلا قوله تعالى:

{إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} أراد بذلك أنه كذلك المعرفة إذا دخلت القلب لا تترك فيه سخطا ولا شكا ولا حظا للنفس إلا أذلته وأحرقته.


وكذلك ما أشار به الجنيد رحمه الله عندما سُئل عن سكونه عند السماع فتلا قوله تعالى:

{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}.

وعلى هذا يمكن أن نفهم قول بعض العلماء أن كلام الصوفية في القرآن ليس بتفسير. فيقصدون به أنه من هذا القبيل فتوح وإشارات وتمثّل.

إلا أن من الفهم بالإشارة ما يصح أن نقول فيه أنه تفسير:

قال الطوسي في "اللمع":

" ... فقال عز وجل: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}. واستفاد أهل الفهم من هذه الآية أن أول المسارعة إلى الخيرات هو التقلل من الدنيا، وترك الاهتمام بالرزق .... والزهد في الدنيا."


ومثال ذلك أيضا ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال:

"كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُدْخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَد في نفسه، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم. قال ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نَصَرنا وفتَح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول ؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول".



وإضافة إلى ما ذُكر، أنقل فيما يلي رأي واحد من كبار المفسرين، وهو الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور صاحب تفسير "التحرير والتنوير" الذي يعد بحق جوهرة نفيسة من جواهر التفسير:


جاء في مقدمة "التحرير والتنوير":


أما ما تكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معانٍ لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه، فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدّعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثّل بها في الغرض المتكلّم فيه.

وحسبهم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية.

ثم استشهد ابن عاشور برأي الغزالي في الإحياء فقال:

" ..إذا قلنا في قوله: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة"؛ فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب، فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة. فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه. وفرق كبير بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر"أ هـ.



فبهذه الدقيقة فارق النزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عامّ في آية بخاصّ من جزئياته؛ كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قال هم كفّار قريش، ومحمد نعمة الله، {وأحلّوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر."


ثم فصّل رأيه في هذا النوع من التفسير بقوله:



"وعندي أن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء:


الأول:
ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى، كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب، لأنها مواضع الخضوع لله، إذ بها يُعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية. {وسعى في خرابها} بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى. فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، وذكر الآية عند تلك الحالة كالنطق بلفظ (المَثَل)، ومن هذا قولهم في حديث "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" كما تقدم عن الغزالي.


الثاني:
ما كان من نحو التفاؤل. فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع، وهو غير معناها المراد، وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره. وهذا كمن قال في قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع} (من ذلَّ ذي) إشارة للنفس يصير من المقربين الشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شُغل به قلبه. ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.


الثالث:
عِبر ومواعظ. وشأن أهل النفوس اليقظة أن ينتفعوا من كل شيء، ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها، فما ظنك بهم إذا قرؤوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه. فإذا أخذوا من قوله تعالى {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسولَ المعارف العليا تكون عاقبته وبالا. ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر: "هذه العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار، فجعل يبكي ويقول: إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار"."


ثم أضاف:


"فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة. ولا ينتفع بها غير أولئك. فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين."

حول كتب التفسير بالإشارة

ورغم أنني لم أطلع على كل ما كتب في التفسير الإشاري للقرآن الكريم إلا أنني وبعد إطلاع على ما توفر لي منها، وجدت تفسير القشيري رحمه الله أجودها وألطفها وأقربها إلى معاني أهل الله وأحراها بتحريك همة وحال السالك.

أما تفسير ابن عربي رحمه الله فوجدته جامدا تتسع الهوة فيه بين الإشارة والدلالة اللفظية نفسها حتى يجعل ذلك القارئ في بعض الإشارات لا يرى أي مناسبة بعيدة أو قريبة بين الاستعمال الأصلي والإشارة. اللهم إلا إن كانت المناسبة في بعض إشاراته تدخل في باب الرمز البعيد الخفي، وهذا ما لا ينتفع بجله القارئ العادي أو حتى مريد التصوف المبتدئ.


وأما تفسير "البحر المديد" لابن عجيبة فلقد كنت أنتظره بصبر نافد مطبوعا طباعة جيدة تصلح للقراءة والاستفادة ولكنني وجدته دون ما ألفه ابن عجيبة رحمه الله من حيث الغوص والفهم النادر العجيب والمتمثل في أكثر كتبه الأخرى وعلى رأسها شرحه على حكم ابن عطاء الله؛ المسمى ب "إيقاظ الهمم في شرح الحكم". ووجدت الفارق كبيرا بينه وبين تفسير القشيري، إلا أن ما يميزه هو جمعه بين التفسير والإشارة مما يجمع للقارئ بين نوعين عظيمين من الفوائد في آن واحد. وهو قريب في ذلك من تفسير الألوسي "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني".

وفي ختام هذه العجالة أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح المراد بالتفسير الإشاري بما يزيل الغشاوة عن العيون ويجنّب الخائضين إساءة الظن بأهل الله وأوليائه، ويكفيهم عناء تجميع "الإشارات" التي (لا تعجبهم) في كتب تكفيرية يعكفون على تأليفها فيضيعون أعمارهم بالباطل، ظانّين أن مراد القائلين بها التفسير بالمعنى المعروف أو إبطال الظاهر كما هو شأن الباطنية وغيرهم من أصحاب الأهواء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين