لنبي المصطفى شمس حضارة الإسلام: حقائق مهمة

لنبي المصطفى شمس حضارة الإسلام: حقائق مهمةالإمام العلامة علي جمعة
تم

حاول الفلاسفة والمفكرون، عبر القرون، ومنذ أقدم العصور، أن يتخيلوا مجتمعاً إنسانياً فاضلاً وحضارة بشرية ترتقي فيها الأخلاق، وتترفع عن الدنايا والشهوات، حاولوا أن يحلموا بهذا النموذج، وحاولوا صياغته في نموذج نظري، وعبروا عن هذا النموذج البشري الراقي بأسماء مختلفة، منها: «جمهورية أفلاطون»، «مدينة الشمس»، «المدينة الفاضلة»، وظل هذا النموذج حلماً عاش عليه كثير من الفلاسفة والحكماء، وأصبح رمزاً عند كثير من أعلام الفكر، وضرباً من السراب، وربما قطع كل الفلاسفة والمربين - مع تعلقهم به من ناحية الأمل - بأن هذا النموذج لا مكان له على أرض الواقع.
في وسط تلك الأجواء - بما فيها من واقع إنساني بعيد كل البعد عن الحد الأدنى من احترام الإنسان في كل مكان في العالم: أوروبا، وأفريقيا، وآسيا، يقتل الإنسان أخاه الإنسان، ويعذبه، ويكذب، ويخون، ويسرق، من أجل شهوات دنيئة - ظهر فجأة نور الله المبين رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، في جزيرة العرب بمكة، ذلك الموضع الذي ضم أول بيت وضع للناس في الأرض، خرج ليحقق المدينة الفاضلة ويبني الحضارة الخالدة، خرج يدعو أولاً لتوحيد مصدر تلقى التعليمات، للتأكيد على الحقيقة الوحيدة في ذلك الكون، خرج يقول: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، وبعد أن يعتقد الناس أن هذا الكون له خالق واحد ينبغي أن يفرد بكل أشكال العبادة، ينزل وحي الله الواحد ليُرقِّي البشرية، ويُخرجها من الظلمات إلى النور، نور تلك المدينة الفاضلة.
لقد أقام النبي الأعظم محمد، صلى الله عليه وسلم، الدلائل والبراهين على صدق دعوته، تلك الدعوة التي لا يختلف عليها عقلاء الأرض، وهي أن الصانع واحد، وينبغي أن يفرد بالعبادة وحده، كما انفرد بالخلق والإيجاد، كما بنى الاعتقاد السليم لدى المسلم في الله والكون والإنسان، وكَوَّن النظام الاجتماعي الفريد، وكَوَّن الدولة الإسلامية لتنشر الإسلام في شتى بقاع الأرض، وأقام حضارة مازالت قائمة إلى يومنا هذا تُباهي حضارات العالم بكمالها ونزاهتها.
وفي بداية الترحال في تفاصيل سيرة النبي العطرة وكيف كانت شمساً خالدة لحضارة الإسلام العظيمة لنسير في ركابها ونهتدي بنورها وسموها، يجب أن نُقر أولاً بعضاً من الحقائق المهمة التي قد يغفل عنها البعض:
1- إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شخص عظيم له حقيقة يغفل عنها كثير من المؤمنين به، فضلا عمن لم يعرفه أصلا أو لم يؤمن به.
2- إن هذه الحقيقة، وإن كانت ظاهرة للعيان، لكن ينكرها قساة القلوب ذوو البصائر الصدئة، الذين يصدق فيهم قول الشاعر:
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ
3- إن الإنسان إذا قارب الاطلاع على حقيقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو بصورة جزئية فإنه ينبهر بنورها، ويعشق جمالها، ويهاب جلالها، ويذوب في حبها، ويعيش فيها وتعيش فيه.
4- إن معرفتنا بحقيقة رسول الله ليست محيطة أو شاملة، بل هي جزئية، يعرف الإنسان بعضها ويجهل بعضها، ثم تزداد المعرفة وتكتمل في حياته حسب فتح الله عليه، وهكذا طوال عمره شيئاً فشيئاً، ويزيد مع المعرفة الحب والشوق، ويزداد الانجذاب به وإليه صلى الله عليه وسلم.
5- إن الفتح الإلهي بالمعرفة للحقيقة النبوية ليس بمحض التمني، بل مرتبط بالهمة العالية والعمل والاجتهاد في سبيل تحصيل هذه المعرفة.
6- هذه الحقيقة المحمدية موجودة في القرآن الكريم، وكان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشى على الأرض، وكان خلقه القرآن، وقال عنه تعالى في قرآنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وموجودة في سنة رسول الله: في أقواله وأفعاله، وموجودة في سيرته: في مواقفه وعلاقاته، وموجودة في تراث الأمة الإسلامية: في فقهها ونثرها وشعرها وأناشيدها وسلوكياتها وأخلاقها.
7- والحقيقة النبوية إذا عرفتها ودخلت قلبك لن تخرج منه أبداً، ويشعر من فُتِحَ له، ولو بشيء قليل منها، بالفرح والفرج والزيادة والطمأنينة، وهذه المعرفة وهذا الفضل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وفى النهاية، فإن هذا المقال وما يليه هو محاولة متواضعة منا للتعريف برسولنا وحبيبنا وهادينا إلى الخير خاتم المرسلين وخير خلق الله أجمعين سيدنا محمد المصطفى المجتبى المختار، صلى الله عليه وسلم، مقرين ومعترفين بفضله علينا وكرامته وشرفه وبنعمة الله علينا بأن جعلنا من أمته ومن أتباعه، فكم تحتاج الإنسانية كلها الآن إلى معرفته ومعرفة هديه في حياته وتواضعه لأصحابه ورحمته بخلق الله أجمعين، وحبه للإنسان والكون، وحثه على الصلاح والتقوى، ونهيه عن الفساد والعدوان، فقد صرنا في عالم هو أبعد ما يكون عن مُثُلِه العليا التي أرساها وعن مبادئ الحضارة التي شيدها، وهذا إيماناً منا بأن الدفاع عن رسول الله ونصرته ونشر دعوته ورسالته يبدأ من معرفته حق المعرفة، فعلموا أنفسكم وأولادكم وأهليكم معرفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.