دور التصوف في الحفاظ على الهوية الدينية في مصر
|
|
الإمام العلامة علي جمعة
|
|
نشأ التصوف ليضع أتباعه في خضم الأحداث الاجتماعية والسياسية في المجتمع
الإسلامي لا ليكونوا في معزل عن تلك الأحداث, بل عمل على إعدادهم ليكونوا في
خدمة الدين والأمة والوطن.
فلم يقف التصوف ولا الصوفية عند حالة الذكر والزهد والتعبد الفردي أو
الجماعي, بل أصبح للتصوف مؤسسات كبيرة لها امتداد في العالم أجمع, وصارت تقوم
بدور تنموي وسياسي واجتماعي; فقد أفرزت الصوفية على مر العصور علماء ورجالا
وقامات يزخر ويزدهر التاريخ الإسلامي بهم استنادا إلى شعبيتهم الجارفة, وحب
جماهير المسلمين لهم, وما وصلوا إلى هذه المكانة وتلك المرتبة إلا بحسن التأسي
والسلوك على المنهج القويم الثابت عن الكتاب والسنة واحترام علماء الأمة والسعي
إلى وحدة المسلمين وابتغاء تماسكهم, ولذا لم يقتصروا على جهاد النفس فحسب كما
يردد من لا يعرفهم, ولكنهم جمعوا إلى ذلك القوة في محاربة الأعداء والطغاة, ومن
نماذج هؤلاء الإمام الغزالي ومحيي الدين بن عربي والعز بن عبد السلام والإمام
النووي, وفي العهد غير البعيد حمل الصوفية لواء الثورة الوطنية في مصر في مواجهة
أمراء المماليك, حيث قاد الإمام الدردير الصوفي الكبير ثورة كبيرة ضد المماليك
قبل الثورة الفرنسية بثلاث سنوات, أجبرت المماليك على الاعتراف بأن الأمة مصدر
السلطات، ومنعتهم من فرض ضرائب جديدة إلا برأي الشعب, مع الإقرار الكامل بحرية
الأمة وكرامتها.
وللتصوف أصول وضوابط كبرى هي: التمسك بكتاب الله, والاقتداء بسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم, وأكل الحلال, وكف الأذى, واجتناب المعاصي, والتوبة، وأداء
الحقوق, فالتصوف إنما يكون بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية، قال تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24], وقد نص الصوفية على أنه: لا
يصلح للتصدر في طريق الصوفية إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها
وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها, وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها
وغير ذلك, وهو ما حكاه العارف بالله عبد الوهاب الشعراني في مقدمة كتابه الطبقات
الكبرى (الطبقات ص5), وقال كذلك: إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير
الذهب والجوهر, فيحتاج سالكها إلى ميزان شرعي في كل حركة وسكون (لطائف المنن
والأخلاق 1/2).
وقد نشأت الصوفية في مصر على أساس من الوسطية والاعتدال, وقد صاحبها
إنشاء أول خانقاه في مصر في عصر الناصر صلاح الدين الأيوبي, وانتشرت من بعدها
الخانقاوات والمدارس الصوفية في ربوع مصر فعملت على إعداد المريدين والطلاب
إعدادا نفسيا وتربويا وأخلاقيا لمواجهة المخاطر الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع المسلم بين فترة وأخرى.
وتمسكا بالمبدأ الوسطي الذي قام عليه الإسلام, كانت الصوفية في مصر بعيدة
عن الغلو, وتتميز بالاعتـدال وتنأى عن الشطط, فقد كانت الطرق الصوفية المصرية
يجمعها طابع خاص هو العناية بالجانب العلمي والخلقي.
ومع ما كان للتصوف في مصر من حياة روحية خاصة, فقد كان له تأثيره الخاص
على العديد من مظاهر الحياة المحيطة به, وكان ذلك داعيا إلى الاعتماد عليه في
الدعوة إلى الله ورسوله, وهو ما ساعد الصوفية بقوة في تشكيل الهوية الدينية
الوسطية في مصر, وكان سبيلها في ذلك بساطة العرض الذي تقوم به وسهولة الانضواء
تحت لوائها في ظل الخطوب التي تعرضت لها مصر خلال الفترات المختلفة, حيث كانت
التكايا والزوايا والخانقاوات ملاذا آمنا للمظلومين والفقراء والضعفاء, وغدت تلك
المراكز نبراسا دينيا حضاريا يتخرج فيه المسلم العامل بكتاب الله وسنة رسوله
ليجاهد في سبيل وطنه ودينه, ومن ثم شكلت الصوفية جل الحالة الدينية في مصر التي
اتسمت بالبعد عن الغلو والتشدد.
وقد ارتبط التصوف بحب آل البيت وإقامة الموالد وحلقات الذكر, مما ساعد
على جذب المريدين إلى محبة المساجد وآل البيت, وهو الأمر الذي أسهم في بلورة
الإسلام الوسطي وتشكيل الهوية الدينية, وهذه المحبة لا يشترك فيها الصوفية
والشيعة فقط, بل إن المسلمين جميعا سنة وشيعة يشتركون في محبتهم لآل البيت رضي
الله عنهم.
لقد كانت الصوفية -وما زالت- عاملا فاعلا وأصيلا في المجتمع الإسلامي في
مصر, وهو ما يدعو الطرق الصوفية في كل زمان إلى الالتفاف حول أصول التصوف
والتمسك بها, والعودة إلى دورها الرائد في الدعوة إلى الله وقيادة المجتمع دينيا
واجتماعيا وسياسيا, كما كانت طوال تاريخها في مصر, ولا يضيرها ظهور بعض الفئات
من المتواكلين والجهلة الذين يتكسبون من وراء ادعائهم الصوفية والانتساب إليها,
فطريق التصوف جلي قوي لا يحيد عن صراط الله المستقيم رغم تهجم المتهجمين واتهام
المغرضين.
|